لفت البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، خلال ترؤّسه رتبة سجدة الصليب على مذبح كنيسة الباحة الخارجيّة للصّرح البطريركي في بكركي، إلى "أنّنا نحتفل اليوم بسرّ موت ربّنا يسوع المسيح، إبن الله، لفدائنا وفداء الجنس البشري من خطايانا على مرّ الأزمنة حتّى نهايتها. هكذا حوّل إلى ذبيحة فداء جريمة قتله، وهي أفظع جريمة في تاريخ البشريّة، إذ الإنسان فردًا وجماعات قتل الله الإبن يسوع المسيح: اليهود شعب الله بالحقد والحسد والبغض والرّفض، والرّومان الوثنيّون المحتلّون بالمساومة والخوف من هيجان الشّعب والهروب من الحقيقة والعدالة".
وأشار إلى أنّ "خشبة الصليب، الّتي هي في الأصل أداة تحقير المجرمين وقتلهم، حوّلها الإله المصلوب إلى أداة خلاص للعالم، وانتصارٍ للمؤمنين أمضى من أيّ وسيلة أخرى، ونهجِ حبٍّ لكلّ مؤمن ومؤمنة"، مبيّنًا أنّ "في بداية رسالته العامّة، أعلن يسوع المعلّم دستور الحياة المسيحيّة، المعروف بإنجيل التّطويبات (متى 5: 1-11)، بثماني كلمات هي فضائل منقسمة إلى ثلاث فئات: الفئة الأولى تمثّل الحالة الشّخصيّة الدّائمة، وفيها أربع فضائل: الفقر الروحيّ- التّواضع- نقاوة القلب- العزاء في الحزن".
وأوضح الرّاعي أنّ "الفئة الثّانية تمثّل الإلتزام بفضيلتين: صنع السّلام وصنع الخير. الفئة الثّالثة تمثّل ردّة الفعل الدائمة بفضيلتين: الصّمود بوجه الاضطهاد من أجل الخير، والثّبات بوجه التّعيير والإفتراء والكذب من أجل المسيح"، مركّزًا على أنّ "هذه الفضائل الإنسانيّة الثّمانية تشكّل الشّخصيّة المسيحيّة الحقّة. فيتعيّن على كلّ شخص بشريّ أن يتحلّى بها، وبواسطتها يعمل على بناء مجتمع أفضل".
وأكّد أنّ "اليوم يسوع المعلّم نفسه المعلّق على الصّليب وكأنّه عرشه، يستكمل دستور الحياة المسيحيّة بثماني كلمات إضافيّة، جعلها نهجًا لنا عاشه هو قبلنا. ثلاث منها قالها قبل وقوع الظّلام على الأرض كلّها الذّي دام ثلاث ساعات من الظّهر حتّى السّاعة الثّالثة (راجع متى 27: 45)، وواحدة عند حلول الظّلام، وثلاث كلمات بعده؛ والكلمة الثّامنة والأخيرة من صمت موته".
وذكر أنّ "الكلمات قبل حلول الظلام "1. يا أبتِ إغفر لهم ..." (لو 23: 34). قالها عندما كان الصّالبون يغرزون المسامير ويستهزؤون به. إنّها بطولة معاملة الشرّ بالخير والصّلاة. الغفران أقوى وأفعل من السّلاح، لأنّه يضع حدًّا للشرّ، فيما السّلاح يستولده. 2. اليوم تكون معي في الفردوس (لو 23: 43). قالها يسوع للمجرم المصلوب عن يمينه عندما عبّر عن توبته. والتّوبة بطولة أيضًا، لأنّها إقرار بالخطايا والزلّات والنّواقص بدافع من التّواضع، فالمتكبّر لا يقرّ بخطاياه، والحاقد لا يستطيع أن يغفر ويسامح. بهاتين الكلمتين الأوّليين، علّمنا يسوع بطولتين: الإستغفار والغفران".
وأضاف الرّاعي: "الكلمة الثّالثة هي "يا امرأة، هذا ابنكِ، ويا يوحنّا هذه أمّك" (يو19: 26-27). قالها يسوع في غمرة الألم والدّموع لرؤيته على أقدام الصليب الأحبّين: أمّه ويوحنّا الحبيب، وهما مثله مكسوران بالألم والدّموع، فحوّل كلّ هذه الآلام إلى "أوجاع مخاض". فجعل أمّه أمّ البشريّة جمعاء، وجعل كلّ إنسان، بشخص يوحنّا، إبنًا لمريم"، لافتًا إلى أنّها "الأمومة الجديدة: في فرح البشارة أصبحت مريم عذراء الناصرة أمًّا ليسوع التاريخيّ، وفي آلام الصّليب أصبحت أمّ المسيح الكلّي أي الكنيسة، المتمثّلة فيها البشريّة حتى نهاية الأزمنة".
كما فسّر أنّ "الكلمة الرّابعة هي "إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ (متى 27: 46)، قالها عندما غطّت الظّلمة الأرض كلّها؛ فشعر يسوع الإنسان الضّعيف بالعزلة الكاملة، متروكًا من الله والنّاس. ومع هذه الصّرخة واصل صلاته بنداء استغاثة وبإيمان منه بأنّ المستغيث بالله لا يُردّ خائبًا. كم من النفوس تصلّي مثله في ساعات الوجع والنزاع!"
وتابع: "5. أنا عطشان" (يو 19: 28) قالها بعد زوال الظّلمة، يخنقه العطش من التّعب والدّماء والصّلب، فأُعطي خلًّا. لكنّ يسوع بآلامه وعطشه وموته أعطى الماء الحيّ، الروح القدس، الّذي يُروي كلّ عطشنا الرّوحي إلى المحبّة والعدالة والحقيقة والحريّة والسّلام. لكنّه بذات الوقت يوصينا بإرواء عطش إخوتنا البشر، إذ قال: "كلّ من سقى أحد إخوتي هؤلاء الصغار كأس ماء بارد من أجلي فلن يضيع أجره" (متى 10: 42). كما تماهى مع كلّ عطشان إذ قال: "كنت عطشانًا فسقيتموني" (متى 25: 35)".
وأفاد الرّاعي بأنّ "الكلمة السّادسة هي "لقد تمّ كلّ شيء" (يو 19: 20)، قالها يسوع للتّعبير عن إرادته الكاملة للآب الذي أراده، بفيض من حبّه، ذبيحة فداء عن خطايا البشر أجمعين، من آدم حتى نهاية الأزمنة. وهو القائل: "أتيت لأعمل إرادتك يا الله" (عب 10: 7). ضميرنا يسأل كلّ واحد وواحدة منّا ومن الناس أجمعين: "أين أنا من طاعتي لإرادة الله المتجلّية في رسومه ووصاياه وكتبه المقدّسة وتعليم الكنيسة وإيحاءات الروح القدس، والطّاعة للرؤساء الروحيّين؟".
وأشار إلى أنّ "الكلمة 7. "أبتِ، بين يديك أستودع روحي" (لو 23: 46)، قالها يسوع مسلّمًا روحه لأبيه الّذي أرسله لخلاص العالم، ويتخلّى عن حياته ليعطيها في سرّ الإفخارستيا حياة إلهيّة فينا. هذه الكلمة قالها بقوّة وثقة، لأنّه بذل نفسه بإرادته الكاملة، وقد قال: "ليس أحدٌ يأخذ حياتي منّي، بل أنا أضحّي بها راضيًا. فلي القدرة أن أضحّي بها، ولي القدرة أن أستردّها" (يو 10: 18). معزيّة هي هذه الكلمة نقولها قبل الرقاد، وقبل رقدتنا الأخيرة".
ونوّه إلى أنّ "الكلمة الثّامنة هي "جرى من قلبه دم وماء" (يو 19: 34). هذه الكلمة لم ينطق بها يسوع بلسانه الصامت بالموت، بل من قلبه، عندما طعنه أحد الجند برمح، إمّا كضربة حقد أخيرة، وإمّا للتأكّد من موته. فكانت كلمته الصامتة هي الأبلغ، لأنّها العلامة لولادة البشريّة الجديدة من محبّة قلبه العظمى من ماء المعموديّة، ولتغذيتها من دم القربان. هذه الكلمة الصامتة تعني ولادتنا ونشأتنا المسيحيّة من سرّي المعموديّة والإفخارستيا. البشريّة الجديدة مولودة من محبّة المسيح اللامتناهية".